العنوان أعلاه مستفز من حيث ربط الإسلام بالداعشية "الفكرة"، متعمد فيه عنصر الاستفزاز هذا، فالكثيرون يفضلون فصل داعش عن الإسلام، والكثيرون يرجعونها لفهم في الإسلام لم يعد ممكنا التغاضي عنه، والكثيرون يرون في الأمر مؤامرة غبية..الخ، ليس هذا كل ما يعنينا في استفزاز القارئ، فإذا ما أرجعنا سيناريو توالد الجماعات الجهادية في بعده الدولي الحديث، بالأخص في شقه المرتبط بالتفجير والانتقام من الآخر سبب كل المشاكل (الغرب كما يصوره هؤلاء)، من مسميات الجهاد إلى بن لادن ومرورا بالبغدادي اليوم...الخ. وإذا ما ربطنا المسألة بامتداد سلفي (وهابي) رَاهَنَ على الانتشار في مدد سابقة بالكتب التي تهدى ولا تباع، وبالأموال التي تغدق عليه من كل صوب وفي كل حين..، ولا ينبغي أن نغفل الجماعات الأصولية أو الاسلامية - كما ترتضي هي تسمية نفسها - التي وإن حركها هاجس الإصلاح وفكرة العودة للأصلح ماضيا، فهي محضن إيديولوجي للحفاظ على فكرة الجهاد وفق تلبسات كل مرحلة بالواقع.
هذه المكونات جميعها تشترك في عنصر المراهنة على اعتصار الإسلام في كل مرة بإيديولوجيا، تتخذ صبغة تطورية جديدةّ في مظهرها، حتى ليخيل للمرء أن الإسلام قادر على استيلاد الأيديولوجيات لكل زمان ومكان دون منازع، ودون رغبة في افساح المجال لمن سيزاحمه.
هذا وجه من الصورة، لكن وجهها الآخر، هو الاكتفاء الذي بدأ في بلوغ مستويات التخمة، فيما يتعلق بهذه الأيديولوجيات المولدة، حيث بن لادن صار نسخة، شكل الكثيرون عنها تصورا ومخيالا جمعيا، فتولد لنا عنها البغدادي الذي يصور لنا لونا آخر من صورة هذه الأيديولوجية. أما الإسلام السياسي الذي راهن على المشاركة السياسة أو من لم يشارك بعد، فقد خلق نموذجه الذي ساهم هو الآخر في تجريب العديد من وجوه الإيديولوجيات المولدة أمام المتلقي في الشارع الإسلامي/العربي.
لن نتقول ونفتري على أنفسنا قبل أي كان، فندعي انتهاء بريق وجاذبية نموذج الجهاد، لكنه رغم ذلك نموذج يعلن انتهاء رصيد من الإيديولوجيا التي استخدمها الغرب بذكاء ولا يزال، قبل أن تكون عقيدة عند من يؤمنون بها. لهذا فالنماذج المولدة قد بدأت في التلاشي، وتيمة الجهاد في الإسلام بلغت حدود الإيذان بخراب العمران. ليس في الأمر تسرع في الحكم، وانما السبب في ذلك إغراء النموذج البوعزيزي " الجهاد المنسي " حسب اعتقادنا، لا في إحراقه لجسده، ولكن في إيديولجية الثورة التي أصبحت أفقا ممكنا لتحقيق بعض من حلم الكثيرين، وإن كان على مستوى الانتقام الداخلي، لهذا، فالبرجان أو غيرهما من عناصر التميز الغربي، لم تعد وجهة الإغراء الجهادي الممكن، وإنما ثورة الحرية على الاستبداد.
تستحق الفكرة مزيد توضيح، ويمكن باختصار أن نقول بأن الجهاد (حسب تمثل معين) الذي استلب مخيال الكثيرين من شباب المنطقة، قد ذاع بسبب من الانحصار في استيلاد ايديولجيات تنتج المعنى والحياة، ولهذا لا ينبغي رفض الفكرة التي تبرر تقبله من وجهة نظر براغماتية، لأنه رغم كل الرفض الذي سيحفه وسيظل، يعتبر حلا عند الكثيرين أمام واقع انسداد الأفق.
إن المعادلة إلى هذه الحدود تبدو مقبولة، لكنها عند انكسار حاجز الانسداد الموهوم هذا، بالأخص بعد قيام الثورات في المنطقة، والتي كما قد يتبدى للكثيرين فرص ضائعة ووهم وخريف، ولكل الحق في النظر للأمور من الوجهة التي يحب. قد يقتضي الأمر بعض التريث لأن هذا الجيل عايش إمكان تكسير الحاجز، كما اكتشف الهشاشة التي يتستر خلفها الاستبداد، اكتشف روابط الدول وتعقد مصالحها حينما تعقد العزم على توجيه الحدث نحو واقع غير ما أرداه الشباب. لا يمكنني إذن أن أصم الآذان عن هذه الحساسية الحالمة في جيل اليوم، والتي ستنافس فكرة الجهاد، بل ستحولها مجددا نحو فكرة الجهاد الأكبر التراثية (جهاد النفس) بالارتماء في أحضان البشاعة الداخلية قصد تقليل فرص بقائها وتمددها، لحين بلوغ مرحلة الإزالة الكلية، أو لنقل بلغة الحبابي لحين تكشف إنسان المنطقة على كينونته/شخصانيته الواقعية.
أرضية التجربة الحديثة، أدخلت معادلات جديدة لقواميس الممارسة السياسية والاجتماعية عند هذا الجيل، ولهذا ففكرة الجهاد "الداعشي" هي الارتعاشة الأخيرة والممكنة التي سيكون مصيرها اندثار الجهاد الساذج، والممكن توظيفه في كل اتجاه، وحسب رغبة الجميع، دون ان يستفيد معتنقوه في النهاية.
داعش اليوم، قد يبدو الدين عنوانها، والمؤمنون أصحاب الايتاوات المالية المعيلة لحاجياتهم وقودها، دون أن أنفي أنهم جيل يستحق أفضل من هذه الإيديلوجية المريرة، والتي تستهلكهم لصالح داعشيين متخفين في لبوسات رسمية دولية، ولبوسات دينية تأويلية مُوجِهة للتراث.
داعش اليوم التقاء مصالح، والتقاء سياسات بعيدة المدى، هذه خلاصات يعيها جيل اليوم، وإن كان ظاهر الأمر أن الأوراق مختلطة والمسألة معقدة. داعش فكرة ميتة، يتم إحياؤها لتعيل فكرا يلفظ أنفاسه.
داعش مرحلة حرجة لثقتنا في المستقبل، ومدى قدرتنا على الخلق والتجاوز لهذا الخراب الذي يحاول التعايش معنا، معتبرا نفسه – بوقاحة فاقعة - مكونا من تراثنا الإسلامي، وجزءا من العقيدة، بينما العقيدة عندنا هي الحرية وهي العمران (الحضارة) التي لا تزال تزحم تفكيرنا، وتبهر مخيالنا بما حققته عقول أجيال سابقة من مسلمينا من نجاح، وما أصابته من انفتاح على العالم وما قامت به من استثمار ذكي وحكيم لمعارفه.