كأي من المصطلحات التي أفرزتها مرحلة الانفتاح و صدمة المفاهيمية النظرية التي غزت الكيانات الهشة من مستقلة دون مرحلة النضج و مصطنعة بميزاج المستعميرين، في كل أبعادها و استخداماتها من التعليمية إلى السياسية و غيرها، فقد اتسعت دائرة الحديث عن المواطنة كأهم عامل لاحتساب سكان البلد متساوين في إدراك أهمية الوطن و الحفاظ عليه من حيث الوحدة البشرية و حرمة الحوزة الترابية و احترام الموروث الثقافي على اختلافه. و هو المصطلح بكل هذه الأبعاد الذي يراد له تحديد العلاقات بين هذه المفاهيم حتى تحمل أبعاد الربط، و الفصل، و العلاقة، و التصنيفية و العملية و الوجدانية إضافة لتوظيفها في عملية التقويم المجتمعي من خلال السؤال عن العلاقات أو تسلسل أو تدرج مفهوم هذه المواطنة.
و في زحمة الصراعات السياسية البيزنطية التي تخوضها معظم التشكيلات السياسية التي تعمر ساحة التعاطي والشد والجذب نزل المصطلح فجأة فتلقفته الأحزاب و غيرها في المجتمع المدني و الحقوقي فأغرقه منظروها بين أمواج خلافاتهم المزمنة حتى أفرغوه من محتواه الأصلي الذي يعبر عن نفسه بعلمية و رشاد و صدق و حسن توجه، محاولين أن يجعلوه من عندهم الوصفة السحرية لإرساء الوحدة الوطنية دون عمل على ذلك و لا تهيئة لظروف منطقية و تنقية لأجواء الخلافات الجوهرية المتعلقة بالتركيبة الإثنية و الممارسات المشينة من رق و نظرة دونية و قبلية طاغية و طبقية بغيضة و غياب عدالة اجتماعية و انقسام إلى فسطاطين هما: - فسطاط الأغنياء الذي أسس لقيامه المختل و منذ الإعلان عن الاستقلال حضور القبلية الطاغي بموازين قواها التقليدية و من الطبقية و الإقطاعية إفراز تلك التقسيمة الضاربة في القدم و ما أنتجه كل ذلك من حضور قسري في السياسة إذ الأحزاب انعكاسا لذلك الوجه المجتمعي و استئثار بحركة المال و الأعمال في بدائرة تسيير الدولة و ملازمة لتوجيه و تنفيذ مشاريعها تحت عنوان التنمية و البناء، - فسطاط الفقراء من إملاق الدونية التراتبية المكبل و من إقصاء لا عنوان له إلا أنه نتيجة لذلك التهميش و الإبعاد عن دائرة صنع القرار و الإشراك الفعلي عن كثب في الشأن العام للبلد الحضور الفعلي في صياغة الرأي و توجيه المشورة و في العمل الميداني على نشر العدالة في توزيع الخيرات على كل الجهات و الفئات و الأدوار على الجميع في واجب بناء الوطن و حماية صرحه. و معلوم أن المواطنة ترتبط عادة، كما تعرف من حولنا، بحق العمل والإقامة والمشاركة السياسية في دولة ما أو هي الانتماء إلى مجتمع واحد يضمه بشكل عام رابط اجتماعي وسياسي وثقافي موحد في بلد معين. وتبعا لنظرية "جان جاك روسو" التي وردت في "العقد الاجتماعي" فإن للمواطن حقوق إنسانية يجب أن تقدم إليه وهو في نفس الوقت يحمل مجموعة من المسؤوليات الاجتماعية التي يلزم عليه تأديتها. وينبثق عن مصطلح المواطنة مصطلح "المواطن الفعال" وهو الفرد الذي يقوم بالمشاركة في رفع مستوى مجتمعه الحضاري عن طريق العمل الرسمي الذي ينتمي إليه أو العمل التطوعي. ونظرا لأهمية مصطلح المواطنة يقوم الكثير من الدول الآن بالتعريف به وإبراز الحقوق التي يجب أن يملكها المواطنون و كذلك المسؤوليات التي يجب عليهم تأديتها تجاه المجتمع فضلا عن ترسيخ قيمة المواطن الفعال في نفوس المتعلمين. و هو التعريف الذي لا يحتاج إلى حملات نظرية بقدر ما يحتاج إلى إشاعة العدالة ليترسخ من تلقاء نفسه في الذهنية العامة و يشكل مفتاح المعضلات التي تهدد الوحدة و تعرض الوطن للانزلاق إلى متاهات التفكك و الضياع. و السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو كيف يمكن للمواطن أن يعي هذه الحقيقة و أن يتقمصها فيضطلع بالدور البارز المعالم المنوط به و يطمئن على اكتساب حقوقه غير منقوصة و على أمنه و راحة باله في وطنه الذي تسوده حينذاك العدالة في كل تجلياتها؟ و هل تلعب الأحزاب و المجتمع المدني و المنظمات ذات الصبغة الاستقلالية و التخصصية، بما هو مفروض أن يكلها و يحركها من النخب العلمية و السياسية و الاجتماعية، تلك الأدوار المجردة و التي هي في النهاية مبرر وجودها، فتحفز الدولة على الضلوع في تكريس المواطنة عاملا للاستقرار و البناء و تحارب كل الظواهر التي تعيق ذلك من قوى غير شرعية مهيمنة و من فساد تعيث به هذه القوى لتدمير الكيان و إبقائه ساحة نهب لها و تحكم. إن المواطنة، مفهوما و واقعا سلوكيا يجب تكريسه، لا بد أن يتم صهرها بفعل تضافر كل الإرادات الوطنية بعيدا عن الطموحات الأنانية الموجهة نحو السلطة و العبث بمقدرات البلد،لأنها أمر بالغ الحساسية و لا يمكن تحقيقه بمعزل عن الشعب القادر وحده على الاستجابة لمتطلبات قيامه و نشر قيمه و جني نتائجه.