"النٌقْدُ الناعم": أصْدَقُ الشكر و أعْذَبُهْ!!

خميس, 08/06/2015 - 19:31
المختار ولد داهي ، سفير سابق

النقد الناعم المُلتزٍم بالضوابط و الآداب البادئ عن حسن نية بذكر المحاسن و الإيجابيات المَبَيٍنُ بقوة في لطف للنواقص و السلبيات الخَاتٍمٍ بالبدائل و الاقتراحات المًوًجًهِ إلي ذوي الشأن العام علي اختلاف مراتبهم هو أحدث طَبَعَاتِ الشكر و الثناء تماما كما أن المديح الهابط و النفاق الخالص هو أقدم نسخ الشكر و أكذبها و أكثرها فسادا و إفسادا. و النقد الناعم هو أصدق الشكر وأعذبه و ما كان النقد الناعم الهادئ الرشيد في كلام إلا زانه و ما كان المديح و "التصفيق" و الإسفاف في حديث إلا شانه.                        
و الحق أني لا أعلم في التاريخ السياسي و الإداري الحديث بظاهرة أضرت معنويا بهيبة المثقفين و الأطر و النخب الوطنية و المراجع المجتمعية أكثر من ما أضرت ظاهرة التملق و التزلف و النفاق السياسي و الإداري التي بلغت مستويات تشكل خطرا علي كرامة البشر و لو سُئِلْتُ لاقترحت تصنيفها تحت مصطلح" الانتهاك الذاتي لحقوق الإنسان" و لطالبت بإدراجها ضمن خانة خوارم المروءة و  الجرائم ضد الكرامة الإنسانية.                                                                                                    
 و قد بلغت ظاهرة النفاق السياسي و الإداري  حدا أن  ذاع في الناس – و هم في ذلك مُبَالِغُون- أنها أوردت البعض مشارف "فقدان العقل " و إن كان من المتفق عليه أنها أسقطت العديد من أعلام المثقفين و السياسيين و صانعي الإدراك  الوطني من قلوب الرأي العام  و صَيًرَتْهُمْ "رموز نفاق سياسي" كما أبعدت آخرين عن الأضواء السياسية و الإعلامية حين اسْوَدًتْ وجوههم من إسفاف ما كتبوا أو نطقوا  في لحظات ضعف: جشع أو جوع أو خوف أو " سُكْرٍ سياسي".                                                          
و قد فطنت كل الأنظمة السياسية التي تعاقبت علي البلد إلي خطورة النفاق السياسي و الإداري و لذلك فمن المُلاحظ أن كل الأنظمة السياسية تصدع في بياناتها الأًوُلِ بالابتعاد عن المديح السياسي و ذم النفاق و التملق و تحميل بطانات التملق  و النفاق السياسي الحربائية المسؤوليةَ الكبري عن  فسادِ "الأنظمة البائدة" و الأخطاء التي ارْتُكْبَتْ خلال فترة الحكم انتهاكا لحقوق الإنسان أو سرقة للمال العام أو تهديدا للأمن القومي....                                                                                                         
 لكنه سرعان ما يتم اختراق تلك الأنظمة السياسية- و إن علي تفاوت- من طرف جحافل النفاق السياسي فتنقسم  الأنظمة في ذلك إلي ثلاث فئات: فئة تستهويها صَنْعَةُ المنافقين فتعمل فيها عمل المُخَدٍرِ عَالِيٍ التخدير فتغدُوً أسيرة لها " مرتبطة بها" و فئة أخري تبَشٌ في وجوه المتملقين وقد تمنح لهم الامتيازات لكنها تستهجن أفعالهم و فئة قليلة ثالثة  تمانع و تكافح ضد سيطرة لوبيات التملق متسلحة بمناعة متينة ضد غواية التملق و النفاق.                                                                                             
و أترك للقارئ الذي نَوُرَ قلبه  التصنيف ضمن الفئات الثلاثة المنوه عنها سابقا لما لاحظه الموريتانيون من صُدُودِ المسؤولين و عدم رضاهم  عن إصرار بعض النخب و الأطر و المراجع المجتمعية  علي لازمة من المديح المنتمي لقاموس الأحادية السياسية و اهتمام أولائك المسؤولين الملحوظ بالمواطنين الذين يتظلمون أو ينتقدون و يتطلعون للأحسن و ذلك خلال زيارات كبار المسؤولين للمرافق العمومية بالمراكز الحضرية الكبري و المناطق الداخلية.                                                                          
و تعتبر قطاعات السياسة و الإدارة و الإعلام القطاعاتِ الأكثر إصابة خلال العقود الماضية حين كان لا صوت فيها يعلو أصوات المنافقين و المتملقين حتي أضحي الرأي العام جاهزا لوصف كل سياسي و إعلامي و إداري بالمتملق و المنافق مما ألجأ بعض  المنتسبين الشرفاء  لهذه القطاعات للكف أحيانا عن تبيان محاسن بعض السياسيات العمومية و إلي  شيئ من عدم الانضباط و الخشونة المعاملاتية و الصدامية مع كبرائهم في العمل و لسان حالهم أن " غضب كبراء  العمل أهون من لعنة الرأي العام".        
 و في اعتقادي أن القطيعة مع ثقافة الشكر الكَذُوب و المديح الهابط المنافي للذوق العام و الاستعاضة عنها بثقافة النقد الناعم و الشكر الصادق السائغ للرأي العام تتطلب من الباحثين إنجاز دراسة رصينة لتشخيص أسباب الانتشار الواسع و الراسخ لثقافة المديح الهابط و اقتراح التصحيحات المناسبة حتي  نُطَهٍرَ فضاءاتنا السياسية و الإدارية و الإعلامية من هذا الوباء  المُدَمٍرِ للأخلاق و قديما قيل إن أُفُولَ الأمم و الدول  لا حق علي ذهاب أخلاقهم.                                                                                     
و في انتظار من يقتنع فيتطوع بدراسة ظاهرة الانتشار الواسع للمديح الإداري و السياسي و الإعلامي الهابط أقترح "الحروف الأولي" لبعض الإجراءات التي من شأنها نزع الحساسية عن نقاش موضوع محاربة التملق و النفاق الإداري و السياسي:-
أولا: استحداث يوم وطني لترقية ثقافة النقد الذاتي و "محاربة التخدير المديحي" : و يهدف استحداث تخليد هذا اليوم الوطني إلي ترسيخ ثقافة النقد الذاتي و محاربة التخدير المدائحي الذي أفسد كل من المجتمع و السلطة معا في مجتمعات عربية عديدة.
ثانيا: الإقلاع عن بعض التصرفات المجاملاتية المشينة: و من أوكد تلك التصرفات المجاملاتية الانحناء المفرط عند السلام علي كبراء العمل و مسح اليد علي الوجه بعد السلام عليهم و التصفيق أثناء الخطابات و السؤال عن أحوال العائلة الخاصة لكبراء العمل كالزوجة و الأبناء. ..                                                                                                                           
ثالثا: إعداد ميثاق طوعي يحرم استخدام بعض العبارات المديحية: و يُقترح أن تبدأ بعض الأحزاب و الإدارات العمومية بإعداد ميثاق طوعي charte يحرم استخدام بعض العبارات المنتمية إلي قاموس الأحادية السياسية و منها كل " الكلمات- الحقائب"les mots- valises التي تشي بما يشبه التأليه و التقديس و منها أيضا كلمة " الدعم اللامشروط" ذائعة الانتشار، المفرطة في الطاعة العمياء و المنافية للشرع و القانون و الذوق الاجتماعي السليم... 

                       

المختار ولد داهي،سفير سابق

 

 

على مدار الساعة

فيديو